طغت التصريحات التحريضية الطائفية لوئام وهاب على المشهد اللبناني في الأيام الأخيرة، بالتزامن مع التطورات الحساسة التي تشهدها محافظة السويداء جنوب سوريا. وفي خضم هذا التوتر، تبرز أهمية قراءة موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي عبّر مرات متعددة عن مسؤولية سياسية وتاريخية نادرة، متجاوزًا الانفعال والغرائز المذهبية، ليقدّم مقاربة عقلانية تنطلق من موقع عروبي واضح، لطالما ميز نهجه ومسيرته.
ووسط الضجيج وردود الأفعال المتسرعة، بدا جنبلاط كعادته قارئًا مبكرًا للمتغيرات، متزنًا في مواقفه، متمسكًا بثوابت الحوار والاعتدال. هكذا كان حتى في الحرب الأخيرة على لبنان، لم ينجرّ إلى الشعارات السيادوية ولا إلى المواقف الثأرية وتباينه من حزب الله، بل اختار الواقعية السياسية، منسجمًا مع إيمانه العروبي، وفي الوقت نفسه رفضًه للمغامرات غير المحسوبة.
هكذا، أعاد جنبلاط توجيه البوصلة نحو القضية الأم، مؤكدًا مرة أخرى أنه ليس مجرد زعيم طائفي، بل حالة سياسية وفكرية نادرة في السياق اللبناني والمشرقي. وبينما انزلقت بعض الشخصيات الدرزية إلى الخطابات التحريضية أو المواقف الانفعالية، تمسّك جنبلاط بخيار حماية الطائفة من الانزلاق في صراعات دموية عبثية، مؤكدًا أن وحدة سوريا ليست مجرد شعار بل ضرورة قومية وسياسية.
جنبلاط الذي خاض تجارب الحروب والتهجير والتسويات وفقه عن ظهر قلب لغة الدم، ليس طارئًا على السياسة ولا متقلّبًا في خياراته. يعرف جيدًا متى يتحدث ومتى يلتزم الصمت، متى يبادر ومتى ينتظر. وفي لحظة تعقيد وغموض كما نعيشها اليوم، يطلّ بموقف متوازن، ثابت على المبادئ، محذر من الفوضى، وداعم للعقل والحوار بدل التجييش والسلاح.
ولا يمكن هنا تجاهل زيارته المبكرة إلى دمشق اثر سقوط الطاغية بشار الاسد، ولقائه الرئيس السوري الحالي احمد الشرع. كثيرون رأوا في الزيارة تسرّعاً، لكنها كانت، في جوهرها، تعبيرًا عن حرص على سوريا كوطن، وعلى مكوناتها جميعًا، لا على النظام بحد ذاته. كانت دعوة مبكرة إلى الحوار، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
يسجل لجنبلاط انه دومًا يرفض الانخراط في الخطاب الطائفي أو المشاريع الانفصالية، مدركًا أن أي تقسيم أو تطييف لسوريا سيكون مغامرة كارثية على الجميع، وعلى الدروز بشكل خاص. ومواقفه، وإن بدت رمادية للبعض، إلا أنها تعبّر عن مسؤولية وطنية وإنسانية عميقة، وتجربة رجل يعرف أن الدم لا يولد دولة، وأن الكراهية لا تحمي الأقليات.
وفي الوقت الذي يملأ فيه وئام وهاب المشهد بالصراخ والشتائم، مستهدفًا محيط لبنان العربي، ومرسلًا رسائل سلبية إلى دول الخليج، يظهر جنبلاط في موقع النقيض تمامًا: زعيم مسؤول، يحفظ الذاكرة، ويحترم التوازنات، ويدرك معنى أن تكون زعيم طائفة صغيرة في منطقة تتآكلها النيران الطائفية.
فما يجري في السويداء ليس مجرد احتجاج على تدهور الأوضاع المعيشية أو الأمنية، بل هو لحظة انفجار سياسي لطائفة كانت تسعى طيلة سنوات الحرب إلى التمايز عبر الحياد. لكن مع تفاقم التهميش، وتراجع قدرة النظام السابق على توفير الحماية أو الخدمات، وجدت الطائفة نفسها بين مطرقة الخوف من الدولة الجديدة المبهمة وسندان الاغراءات الاسرائيلية الكاذبة، من دون أي حليف واضح أو رؤية جامعة، هذا ما شجع الدروز لاطلاق أصوات تطالب بدور سياسي جديد لهم في سوريا، يتجاوز موقع الحياد أو الانكفاء، غير أن الواقع الجيوسياسي لا يبدو ناضجًا لمشاريع استقلال أو حكم ذاتي. فالجغرافيا، والديموغرافيا، وغياب الدعم الإقليمي والدولي، تجعل من هذه الرهانات أقرب إلى الوهم السياسي منها إلى المشروع الواقعي.
لكن ما يزال هناك أمل في أن تلعب الطائفة الدرزية دورًا وطنيًا جامعًا، شرط أن تنفتح على المكونات السورية الأخرى، وتنتج خطابًا عابرًا للهويات الطائفية، يعيد التوازن إلى حضورها، ويمكّنها من حماية وجودها ضمن وحدة الدولة السورية، لا خارجها.
وفي هذا المسار، قد يكون لدروز لبنان، وعلى رأسهم وليد جنبلاط، دور مساعد في التوجيه والدعم، لا من موقع الزعامة العابرة للحدود، بل من موقع الشراكة في القلق والمصير. فالحفاظ على التنوع في سوريا، يبدأ من بقاء المكونات الصغيرة في قلب الدولة، لا على هامشها.
وأخيراً إن ما يجري في السويداء ليس تفصيلًا في المشهد السوري، بل هو لحظة كاشفة لانفجار صامت دام سنوات. في هذا السياق، يبرز وليد جنبلاط مرة أخرى كصوت عقل في زمن التهور، يواصل أداءه المتمايز، رافعًا معادلة دقيقة: حماية الطائفة دون التورط في لعبة الدم، وتأكيد الانتماء الوطني دون السقوط في فخ الأنظمة أو الشعارات الفارغة.