في عالمٍ تعصف به المادة ويُقاس فيه النجاح بعدد المشاهدات والجوائز، وُلدت منذ ثلاثة وعشرين عاماً جوقة صغيرة في زحلة، لم يكن لها من الزاد إلا شغفُها، ولا من الزوّاد إلا الموهبة.
إنها جوقة “وتر”، بقيادة المايسترو فادي النحاس الذي لا يُمكنك أن تميّز فيه متى بدأ فنه، لأنك تشعر أنه وُلد من رحم النغمة، وأن الموسيقى تسري في عروقه كما يسري الخمر في عروق الكرم الزحلي.
جوقة “وتر” لم تعتمد يوماً على التمويل ولا على الدعاية الباهظة. كان رأس مالها الوحيد هو ذلك الإيمان الصادق الذي زرعه فادي النحاس في طلابه، أولئك الصغار الذين كبروا ليصبحوا اليوم فنانين محترفين، يعتلون أهم المسارح اللبنانية، وكأن كل نغمة من نغماتهم تُعلن: “نحن من مدرسة الفن النظيف، من وترٍ لا يصدأ، من زحلة.”
أنا لست بناقدة فنية، ولا أدّعي امتلاك المفاتيح السرية لقراءة العمل الفني، لكنني أعرف متى تُلامس الموسيقى القلب، ومتى ترتجف الروح عند سماع صوتٍ صادق أو عزفٍ مفعم بالحب.
لقد حضرت عروض جوقة “وتر” أكثر من عشرين مرة، في رسيتالات الميلاد والفصح، في مناسبات وطنية، وفي حفلات تخرّج أو تكريم، وفي كل مرة، شعرت وكأنني أشاهد العرض للمرة الأولى. كأن للموسيقى معهم نفساً لا يُشبه إلا رائحة المطر على تراب زحلة.
المايسترو “فادي النحاس” هو أكثر من قائد فرقة. هو الأب الروحي لمئات الأصوات التي تعلّمت تحت إشرافه كيف يكون الفن التزاماً قبل أن يكون شهرة، وكيف يكون اللحن صلاة، والصوت رسالة.
هو ذلك النوع النادر من الفنانين الذين لا يحتاجون أضواء الكاميرا ليبرقوا، يكفي أن تراقبه وهو يقود الفرقة ليصمت كل شيء من حولك، ويعلو الإيقاع.
يُقال في المثل الشعبي: “الفن الراقي ما بينقاس بالصوت العالي، بينقاس بالدقة والنفس.” ومثلٌ آخر يقول: “الوتر الحساس ما بيندق إلا بإيد بتعرف تحب.”، وهكذا كانت يد ” النحاس”، وهكذا كانت جوقة”وتر”.
اليوم، حين نُشاهد جوقة “وتر”، لا نُشاهد مجرد عرضٍ موسيقي، بل نُصغي إلى رحلةٍ من التعب والسهر والإيمان، نُصغي إلى زحلة التي تُغنّي، إلى لبنان الذي لا يزال قادراً على العطاء، إلى الشباب الذين لا ينتظرون الدعم بل يصنعونه.
ختاماً، أقولها بكل صدق: قد لا أكون ناقدة فنية، لكنني من جمهور يعرف كيف يُصغي، ومن قلوبٍ تُصفق من الداخل، وها أنا أُصفّق ل “وتر”، للمايسترو فادي ، ولزحلة التي أنجبت الفن من رحم التواضع والمقاومة الجمالية.
اعضاء جوقة “وتر”… أنتم اللحن الذي لا يشيخ…
ريتا السلوى عطالله